إلزام
جمهور النَّاس ، بما لم يلزمهم الله به
2-
ومن مظاهر التطرف الديني: التزام التشديد
دائماً، مع قيام موجبات التيسير، وإلزام
الآخرين به، حيث لم يلزمهم الله به، إذ لا
مانع أن يأخذ المرء لنفسه بالأشد في بعض
المسائل، وبالأثقل في بعض الأحوال،
تورعاً واحتياطاً، ولكن لا ينبغي أن يكون
هذا ديدنه دائماً وفي كل حال، بحيث يحتاج
إلى التيسير فيأباه، وتأتيه الرخصة
فيرفضها، مع قوله صلى الله عليه وسلم : "يسروا
ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا "
وقوله:
"إن
الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى
معصيته "
وقوله تعالى: ((يُريد
الله بِكُم اليُسْر ولا يُريدُ بِكُم
العُسْر )) [البقرة:
158 ]، و "ما
خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين
أمرين إلاّ اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما
ً".
وقد
يقبل من المسلم أن يشدد على نفسه، ويعمل
بالعزائم، ويدع الرخص والتيسيرات في
الدين، ولكن الذي لا يقبل منه بحال أن يلزم
بذلك جمهور الناس، وإن جلب عليهم الحرج في
دينهم،والعنت في دنياهم، مع أن أبرز أوصاف
الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في كتب
الأقدمين، أنه ((يُحِلّ
لهم الطيبات ويُحرِّم عليهم الخبائث
ويَضعُ عنهم إصرهم والأغلال التي كانت
عليهم )) [الأعراف:156
].
ولهذا
كان النبي صلى الله عليه وسلم أطول الناس
صلاة إذا صلى لنفسه، حتى إنه كان يقوم
بالليل فيطيل القيام حتى تتفطر أو تتورم
قدماه عليه الصلاة والسلام، ولكنه كان أخف
الناس صلاة إذا صلى بالناس، مراعياً
ظروفهم وتفاوتهم في الاحتمال، وقال: "إذا
صلى أحدكم بالنّاس فليخفف، فإن فيهم
الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم
لنفسه فليطول ما يشاء "
[رواه
البخاري ].
وعن
أبي مسعود الأنصاري قال: قال رجل: يا رسول
الله، إني لأتأخر عن الصلاة في الفجر مما
يطيل بنا فلان فيها، فغضب رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ما رأيته غضب في موضع كان
أشد غضباً منه يومئذ ثم قال: "يا
أيها الناس إن منكم منفرين، فمن أمّ
بالنّاس فليتجوز، فإن خلفه الضعيف
والكبير وذا الحاجة ".
وقال
لمعاذ لما أطال الصلاة بالقوم: "أفتَّان
أنت يا معاذ؟! وكررها ثلاثا ً".
وعن
أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني
لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع
بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي، مما أعلم من
شدة وجد أمه من بكائه "
[رواه
البخاري ].
ومن
التشديد على الناس محاسبتهم على النوافل
والسنن كأنها فرائض، وعلى المكروهات
كأنها محرمات، والمفروض ألاّ نلزم الناس
إلاّ بما ألزمهم الله تعالى به جزماً، وما
زاد على ذلك فهم مخيرون فيه، إن شاءوا
فعلوا، وإن شاءوا تركوا.
وحسبنا
هنا حديث طلحة بن عبيد الله في الصحيح، في
قصة ذلك الأعرابي الذي سأل النبي صلى الله
عليه وسلم، عما عليه من فرائض، فأخبره
بالصلوات الخمس وبالزكاة ، وبصوم رمضان،
فقال: هل عليّ غيرها؟ فقال لا، إلاّ أن
تطوع، فلما أدبر الرجل قال: والله لا أزيد
على هذا ولا أنقص. فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: "أفلح
إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق ".
ولطالما
قلت: إن بحسبنا من المسلم في هذا العصر أن
يؤدي الفرائض، ويجتنب الكبائر، لنعتبره
في صف الإسلام وأنصاره، ما دام ولاؤه لله
ولرسوله صلى الله عليه وسلم وإن ألمّ ببعض
الصغائر من المحرمات، فعنده من الحسنات
مثل: الصلوات الخمس، وصلاة الجمعة، وصيام
رمضان وغيرها، ما يكفر عنه هذه الصغائر ((إنّ
الحسناتِ يُذْهِبن السيِّئات ))
[هود:114]، ((إنْ
تجتنبوا كبائِر ما تُنهون عنْه نُكفِّر
عنكم سيئاتِكم ونُدخلكم مدخلاً كريماً
)) [النساء:31
].
فكيف
نسقط اعتبار المسلم بمجرد الوقوع فيما
اختلف فيه من الأمور: أهو حرام أم حلال؟
ولم يعلم تحريماً يقيناً من دين الله؟
أو ترك ما اختلف فيه: أهو واجب أم سنة؟ ولم
نعلم فرضيته جزماً في شرع الله؟ ومن هنا
أنكرت على بعض المتدينين تبنيهم بصفة
دائمة ومطلقة لخط التشدد والتزمت،
والتزام أشد الآراء تضييقاً، وأقربها إلى
التعسير، وأبعدها عن السعة والتيسير، ولم
يكفهم أن يلتزموا ذلك في أنفسهم، وإن
أعنتهم وأحرجهم، بل أرادوا أن يلزموا بذلك
سائر الناس، وأي عالم خرج عن هذا الخط،
داعياً إلى التيسير، أو مفتياً بما هو
أرفق لهم وبما يرفع الحرج عنهم، في ضوء مقاصد
الشريعة وأحكامها، وضع عندهم في قفص
الاتهام!