وهنا انقطع فرعون عن الكلام، لأنّه لم يحر جواباً. أشار فرعون إلى بعض خدمه أن يقتل موسى فقام إليه بعضهم ليقتله، لكن الله تعالى حال دون ذلك، فلم يتمكّن السّياف أن يضرب عنقه. ولما عجز فرعون عن قتله، أخذ يحاجه في الله تعالى. (قال فمن ربّكما يا موسى)؟ (قال ربّنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) أي خلق كل شيء على صورته الخاصة ثم هداه بما أودع فيه من الغرائز إلى حوائجه. قال فرعون ـ وهو يريد أن يغلب موسى في الكلام، حتى يــظهر نفسه في مظهر العالم الفاهم ويظهر موسى في مظهر الجاهل: (فما بال القرون الأولى)؟ فإنك إن صدقت أنك نبي فما حال الناس السابقين الذين ماتوا ولم يؤمنوا بك؟ فهل أنهم معذّبون كما تزعم؟ لكنّ هذا السؤال، لما لم يكن مربوطاً بالمقام، وكان فرعون يريد بذلك تطويل الطريق في المحاجّة، كما هي عادة المعاندين، حيث يفرون من الكلام الذي هو موضع المقصد، إلى كلامٍ تافه لا قيمة له. لم يُجِب موسى عن كلامه تفصيلاً، وإنما أجاب إجمالاً، بقوله: (عِلمها عند ربي) إن علم تلك القرون، وأحوال الأمم السابقة من الصلاح والفساد لا يرتبط بنا، بل إنه موجود عند الله تعالى وهو المجازي لهم. وقد أرى موسى (عليه السلام) عصاه لفرعون لعلّه يؤمن، لكن فرعون تمادى في طغيانه، وأظهر عدم الإيمان.. إنه علم صدق موسى، لكنّه خاف أن يذهب سلطانه وعزّه إن آمن، ولذا أظهر الإنكار. (فتنازعوا أمرهم بينهم) جعل من في بلاط فرعون، يتباحثون حول موسى وعصاه، وما ظهر من أمره، هل صادقٌ أم كاذب؟ وما كيفية الخلاص منه؟ (وأسرّوا النجوى) فأخذ يناجي بعضهم بعضاً بكلام سر. وأخيراً.. قرّر فرعون وأصحابه أن موسى ساحرٌ وليس بنبي، وأن هذه العصا التي تنقلب حيّةً إنما هي سحرٌ وليست بدليل نبوّة. قال فرعون: إن عملك يا موسى سحرٌ ونحن لسنا من الساحرين حتّى نتمكّن من كسر شوكتك والإتيان بسحر مثل سحرك، وإنما نجعل بيننا وبينك موعداً لندعو السحرة، حتى يأتوك، ويأتوا بمثل سحرك: وحين ذاك يتبين انّك ساحرٌ ولست بنبي، كما تزعم. هكذا قال فرعون، ليبقى على شوكة نفسه ويظهر للناس أنّه منصفٌ فيما قال. وقبل موسى ذلك.. وجعلوا بينهم موعداً في يومٍ معين. فأرسل فرعون إلى أطراف مملكته يجمع السحرة، وقد كانت بلاد مصر في تلك الأزمنة مليئةً بالساحرين. فاجتمع جمع كبير من السحرة، حتى أن بعض الروايات تقول أن عدد السحرة كان ثمانين ألفاً. وقالت السحرة لفرعون: (أئنّ لنا لأجراً إن كنّا نحن الغالبين)؟ يجب أن تجزل لنا في العطاء إن غلبنا على موسى.. قال فرعون: نعم لكم الأجر الجزيل (وإنكم لمن المقربين) أقربكم إلى بلاطي، وأقضي حوائجكم. ولم تكن هناك حاجة إلى هذا العدد الكبير من السحرة، وإنما أراد فرعون إظهار قوّة نفسه، بالإضافة إلى أن الجبّارين ـ دائماً ـ يخافون من سيطرة الخصم، فيجمعون حول أنفسهم ما يضمن لهم النجاح ـ بزعمهم ـ حتى إذا لم ينفع بعضهم نفع البعض الآخر، إبقاءً على رئاستهم وشوكتهم. |