قال داود لشيوخ بني إسرائيل: قد بلغتني مقالتكم، وكراهتكم لتنصيب ولدي خليفةً عليكم من بعدي.. إن هذا من أمر الله، لا من أمري، فالله هو الذي يعيّن خلفاء الأنبياء، وإن أنكرتم قولي، فإليكم هذه الحجة: أدّوني ـ يا معاشر شيوخ بني إسرائيل ـ عصيّكم، فأي عصا أثمرت وهي عودٌ يابسة، فصاحب تلك العصا هو الخليفة من بعدي، ووليّ أمر الناس. يا لها من حجة! وهل تخضر العودة اليابسة؟ أم هل تأتي بثمرٍ؟ أليس ذلك كافياً لصدق (داود) (عليه السلام)؟ فإن إثمار العصي لا يكون إلا بأمر الله تعالى، فمن أثمرت عصاه فهو الخليفة. اتفق الجميع على ذلك، وجاء شيوخ بني إسرائيل بعصيّهم، وقالوا لداود، رضينا بهذه الحجة.. فقال لهم (داود): ليكتب كل واحد منكم اسمه على عصاه، فكتبوا، وجاء (سليمان) أيضاً بعصاه وكتب عليها اسمه. ثم.. أمر (داود) أن يجعلوا تلك العصي في غرفة، فجعلوها كما أمر وأغلقوا الباب، وتبنّى حراسة الغرفة رؤوس أسباط بني إسرائيل وكبراؤهم ـ حذراً من التزوير ـ ، وبقيت العصي في الغرفة ليلة كاملة فلمّا أصبحوا صلى (داود) بهم صلاة الصبح ـ على حسب عادته كل يوم ـ ثم أقبل في حشد كبير ففتح باب الغرفة، وأخرج العصي، وإذا بإحداها مثمرة. وهنا اشرأبت الأعناق، وامتدّت الأعين، ليروا لمن هذه العصا؟ وكل يرجوا أن تكون عصاه.. وإذا بهم يقرأون الاسم المكتوب على العصا، فيلمع اسم سليمان (عليه السلام) فهذه عصا سليمان التي أورقت وأثمرت. سلّم شيوخ بني إسرائيل الأمر لنبي الله (سليمان) وعلموا أنه من عند الله تعالى. فلا يحق لهم بعد هذه الحجة المناقشة، وأصبح معروفاً أن (سليمان) هو الخليفة الشرعي لداود (عليه السلام). لكن داود (عليه السلام) أراد أن يظهر للناس فضل ولده (سليمان) وأن الله سبحانه لم يمنحه هذه العطية اعتباطاً، ولذا أخذ (داود) يسأل (سليمان) أسئلة تدل أجوبتها على مقدار ذكاء ولده، وعقله وحصافته. وكان الاختبار والتداول في محضر بني إسرائيل ورؤوس الأسباط. فقال داود لسليمان: يا بني ما أبرد الأشياء؟ قال (سليمان): عفو الله عن الناس، وعفو الناس بعضهم عن بعض. قال (داود): يا بني ما أحلى الأشياء؟ قال (سليمان): المحبة، وهي روح الله في عباده. فافترّ (داود) ضاحكاً، ثم قال مؤكداً: يا بني إسرائيل هذا ولدي (سليمان) خليفتي فيكم. إن أسئلة (داود) كانت ذات وجهين، لكن ذكاء (سليمان) وفطنته أرشداه إلى وجه السؤال الحقيقي ولذا أجاب على طبق السؤال: إن برودة العفو على قلب الإنسان، أحسن من برودة الثلج، وحلاوة المحبة في روح المرء أكثر من حلاوة السكر. ولعل في سؤالي (داود) إلماعاً إلى وجوب تفشي (العفو) و(المحبة) بين الناس لتستقيم أمورهم، وتقوى الصلات والروابط بينهم. |